تاريخ اللغة الكورية
تاريخ اللغة الكورية
اللغة الكورية
تُعدّ اللغة الكورية واحدة من أقدم اللغات في منطقة شرق آسيا وأكثرها تميزًا، إذ تحمل في بنيتها وتاريخها هوية شعبٍ حافظ على لغته رغم الغزوات والاحتلالات والتغيرات السياسية والثقافية الكبرى التي مرّ بها. تنفرد هذه اللغة بخصائصها الصوتية والنحوية، وبنظام كتابتها الفريد الذي يُعتبر من أكثر أنظمة الكتابة ابتكارًا في العالم، ألا وهو "الهانغول". إنّ فهم اللغة الكورية لا يكتمل دون الغوص في تاريخها المتشابك، الذي يعكس بدوره تاريخ كوريا ذاتها.
يُحيط الغموض أصل اللغة الكورية، إذ لم يَتوصّل اللغويون إلى اتفاق قاطع حول انتمائها إلى عائلة لغوية معينة. ويُصنّفها كثير من الباحثين ضمن "اللغات المعزولة"، أي تلك التي لا ترتبط بعلاقات وراثية مباشرة مع لغات أخرى معروفة. إلا أنّ هناك نظريات متعددة تحاول ربط الكورية بلغات أخرى، أبرزها نظرية الانتماء إلى العائلة الألطائية التي تضم التركية والمنغولية والتونغوسية، وذلك لتشابه بعض الخصائص النحوية مثل ترتيب الجمل، واستخدام اللواحق، وتعدد مستويات الاحترام. كما ظهرت فرضيات أضعف تربطها باليابانية، إلا أن هذه الفرضيات لم تُثبت علميًا حتى اليوم، مما يجعل الكورية لغة قائمة بذاتها.
تطور اللغة الكورية عبر العصور الفترة الكورية القديمة (حتى القرن العاشر الميلادي)
في العصور القديمة، كانت كوريا موطنًا لعدة ممالك، أبرزها غوغوريو وبايكتشي وشِلا. وخلال هذه الفترة، لم تكن هناك طريقة رسمية لتدوين اللغة الكورية، فكانت اللغة الصينية الكلاسيكية هي المستخدمة في الكتابة الرسمية والأدبية. رغم ذلك، ظهرت أنظمة شبه كتابية طورها الكوريون لاستخدام الحروف الصينية لتمثيل الكلمات والنحو الكوري، مثل نظام إيدو وهيانغتشال. وقد استُخدمت هذه الأنظمة بشكل خاص في تدوين القصائد الكورية التقليدية، ما أتاح فرصة نادرة للاحتفاظ ببعض مفردات اللغة الكورية القديمة.
الكورية الوسطى (من القرن العاشر حتى القرن السادس عشر)
شهدت هذه المرحلة بداية توحيد اللغة تحت مظلة مملكة غوريو، ثم لاحقًا مملكة جوسون. وقد كانت هذه الفترة بالغة الأهمية في تاريخ اللغة الكورية، إذ حدث فيها أعظم إنجاز لغوي: اختراع أبجدية الهانغول. ففي عام 1443، قام الملك سيجونغ العظيم وفريق من العلماء بوضع نظام كتابة جديد سُمِّي لاحقًا بـ "هونمين جونغهُم"، أي "الأصوات السليمة لتعليم الشعب". وقد كان الهدف من الهانغول تسهيل تعلم القراءة والكتابة لعامة الناس الذين لم يكن بإمكانهم إتقان اللغة الصينية المعقدة.
الهانغول نظام فونيتيكي مبني على منطق علمي، حيث أن أشكال الحروف تعكس طريقة نطقها ومكان تشكيلها في الفم، مما يجعل تعلّمه سهلًا حتى لغير الكوريين. ورغم معارضة الطبقة الحاكمة حينها التي كانت تفضل الصينية كلغة راقية، إلا أنّ الهانغول بدأ ينتشر تدريجيًا بين طبقات الشعب.
الكورية الحديثة المبكرة (القرن السابع عشر – بداية القرن العشرين)
في هذه المرحلة، أصبحت اللغة الكورية أكثر استقرارًا. وقد استمر استخدام الهانغول بجانب اللغة الصينية، خاصة في الأدب الشعبي والرسائل الشخصية. وظهرت العديد من الأعمال الأدبية التي كُتبت بالهانغول، مما ساعد في ترسيخ مكانته كلغة حيّة ومعبرة عن هوية الشعب الكوري. كما ظهرت قواعد لغوية موثقة ومفردات جديدة انعكاسًا للتغيرات الاجتماعية والثقافية.
تُعتبر هذه الفترة من أصعب الفترات التي مرّت بها اللغة الكورية، إذ قامت الحكومة الاستعمارية اليابانية بفرض اللغة اليابانية في المدارس والإدارات الرسمية، ومنعت استخدام الكورية في التعليم والإعلام تدريجيًا. ومع ذلك، قاوم الكوريون هذه السياسات بشتى الطرق، وكان من أبرز صور هذه المقاومة استمرار نشر الصحف والمجلات باللغة الكورية سرًا، وظهور أولى محاولات توثيق اللغة الكورية علميًا وإنشاء معاجمها. وقد لعب الهانغول دورًا مهمًا في حفظ الهوية الثقافية الكورية خلال هذه الحقبة العصيبة.
بعد الاستقلال وانقسام الكوريتين (1945 – الحاضر)
مع استقلال كوريا من الحكم الياباني عام 1945، عادت اللغة الكورية لتصبح اللغة الرسمية للبلاد. إلا أن الانقسام السياسي بين الشمال والجنوب أدى إلى تطورين لغويين مختلفين: في كوريا الجنوبية، تم تعزيز استخدام الهانغول بشكل كامل، مع إدخال العديد من المفردات الإنجليزية، خاصة في مجالات التكنولوجيا والتعليم. وقد تبنت الحكومة سياسة لغوية مرنة، ما سمح للغة بالنمو والتفاعل مع الحداثة والعولمة. أما في كوريا الشمالية، فقد تم اعتماد سياسة لغوية أكثر محافظة، تركز على تنقية اللغة من المفردات الأجنبية، وإحياء الكلمات الكورية القديمة، وتطوير مفردات جديدة خالصة. وتُعرف النسخة المستخدمة هناك باسم "مونتشو مال" أي "اللغة الثقافية".
مكانة اللغة الكورية اليوم
تُعد اللغة الكورية اليوم من أكثر اللغات تأثيرًا وانتشارًا في العالم، إذ يتحدث بها أكثر من 80 مليون نسمة، وهي اللغة الرسمية في كل من كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، كما أنها تُدرّس كلغة أجنبية في أكثر من 150 دولة حول العالم، بفضل انتشار الثقافة الكورية (الهاليو)، بما فيها الدراما، والأفلام، والموسيقى، والطعام الكوري. ويُحتفل سنويًا بـ يوم الهانغول في كوريا الجنوبية في 9 أكتوبر، تقديرًا لهذا الابتكار اللغوي الفريد.